سورة يونس - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


هذا إخبار لمعاصري الرسول صلى الله عليه وسلم وخطاب لهم بإهلاك من سلف قبلهم من الأمم بسبب ظلمهم وهو الكفر، على سبيل الردع لهم والتذكير بحال من سبق من الكفار، والوعيد لهم، وضرب الأمثال، فكما فعل بهؤلاء، يفعل بكم. ولفظة لما مشعرة بالعلية، وهي حرف تعليق في الماضي. ومن ذهب إلى أنها ظرف معمول لأهلكنا كالزمخشري متبعاً لغيره، فإنما يدل إذْ ذاك على وقوع الفعل في حين الظلم، فلا يكون لها إشعار إذ ذاك بالعلية. لو قلت: جئت حين قام زيد، لم يكن مجيئك مستبباً عن قيام زيد، وأنت ترى حيثما جاءت لما كان جوابها أو ما قام مقامه متسبباً عما بعدها، فدل ذلك على صحة مذهب سيبويه من أنها حرف وجوب لوجوب. وجاءتهم ظاهره أنه معطوف على ظلموا أي: لما حصل هذان الأمران: مجيء الرسل بالبينات، وظلمهم أهلكوا.
وقال الزمخشري: والواو في وجاءتهم للحال أي: ظلموا بالتكذيب، وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات انتهى. وقال مقاتل: البينات مخوفات العذاب، والظاهر أنّ الضمير في قوله وما كانوا عائداً على القرون، وأنه معطوف على قوله: ظلموا. وجوّز الزمخشري أن يكون اعتراضاً لا معطوفاً قال: واللام لتأكيد النفي بمعنى: وما كانوا يؤمنون حقاً تأكيداً لنفي إيمانهم، وأن الله تعالى قد علم أنهم مصرون على كفرهم، وأنّ الإيمان مستبعد منهم والمعنى: أنّ السبب في إهلاكهم تعذيبهم الرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل انتهى. وقال مقاتل: الضمير في قوله: وما كانوا ليؤمنوا، عائد على أهل مكة، فعلى قوله يكون التفاتاً، لأنه خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة، ويكون متسقاً مع قوله: وإذا تتلى عليهم. والكاف في كذلك في موضع نصب أي: مثل ذلك الجزاء، وهو الإهلاك. نجزي القوم المجرمين فهذا وعيد شديد لمن أجرم، يدخل فيه أهل مكة وغيرهم. وقرأت فرقة: يجزي بالياء، أي يجزى الله، وهو التفات. والخطاب في جعلناكم لمن بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: خطاب لمشركي مكة، والمعنى: استخلفناكم في الأرض بعد القرون المهلكة لننظر أتعملون خيراً أم شراً فنعاملكم على حسب عملكم. ومعنى لننظر: لنتبين في الوجود ما عملناه أولاً، فالنظر مجاز عن هذا.
قال الزمخشري: فإنْ قلت: كيف جاز النظر على الله تعالى وفيه معنى المقابلة؟ (قلت): هو مستعار للعلم المحقق الذي هو علم بالشيء موجود، أشبه بنظر الناظر وعيان المعاين في حقيقته انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال، وأنه يلزم من النظر المقابلة، وفيه إنكار وصفه تعالى بالبصير ورده إلى معنى العلم. وقيل: لننظر، هو على حذف مضاف أي: لينظر رسلنا وأولياؤنا.
وأسند النظر إلى الله مجازاً، وهو لغيره. وقرأ يحيى بن الحرث الزماري: لنظر، بنون واحدة وتشديد الظاء وقال: هكذا رأيته في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويعني: أنه رآها بنون واحدة، لأن النقط والشكل بالحركات والتشديدات إنما حدث بعد عثمان، ولا يدل كتبه بنون واحدة على حذف النون من اللفظ، ولا على إدغامها في الظاء، لأن أدغام النون في الظاء لا يجوز، ومسوغ حذفها أنه لا أثر لها في الأنف، فينبغي أن تحمل قراءة يحيى على أنه بالغ في إخفاء الغنة، فتوهم السامع أنه إدغام، فنسب ذلك إليه. وكيف معموله لتعملون، والجملة في موضع نصب لننظر، لأنها معلقة. وجاز التعليق في نظر وإن لم يكن من أفعال القلوب، لأنها وصلة فعل القلب الذي هو العلم.


قال ابن عباس والكلبي: نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة قالوا: يا محمد ائت بقرآن غير هذا فيه ما نسألك. وقال مجاهد وقتادة: نزلت في جماعة من مشركي مكة. وقال مقاتل: في خمسة نفر: عبد الله بن أمية المخزومي، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاص بن وائل. وقيل: الخمسة الوليد، والعاصي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن حنظلة، وروي هذا عن ابن عباس.
قال الزمخشري: غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد للمشركين فقالوا: ائت بقرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك. وقال ابن عطية: نزلت في قريش لأن بعض كفار قريش قال هذه المقالة على معنى: ساهلنا يا محمد، واجعل هذا الكلام الذي من قبلك هو باختيارنا، وأحل ما حرمته، وحرم ما أحللته، ليكون أمرنا حينئذ واحداً وكلمتنا متصلة انتهى. ونبه تعالى على الوصف الحامل لهم على هذه المقالة، وهو كونهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء على ما اقترفوه، والمعنى: وإذا تسرد عليهم آيات القرآن واضحات نيرات لا لبس فيها قالوا كيت وكيت، وأضيفت الآيات إليه تعالى لأنها كلامه جل وعز، والتبديل يكون في الذات بأن يجعل بدل ذات ذات أخرى، ويكون في الصفة. والتبديل هنا هو في الصفة، وهو أن يزال بعض نظمه بأن يجعل مكان آية العذاب آية الرحمة، ولا يراد بالتبديل هنا أن يكون في الذات، لأنه يلزم جعل الشيء المقتضي للتغاير هو الشيء بعينه، لأن التبديل في الذات هو الإتيان بقرآن غير هذا. ولما كان الآيتان بقرآن غير هذا غير مقدور للإنسان، لم يحتج إلى نفيه ونفي ما هو مقدور للإنسان، وإن كان مستحيلاً ذلك في حقه صلى الله عليه وسلم فقيل له: قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي. وانتفاء الكون هنا هو كقوله تعالى: {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} أي يستحيل ذلك. ويحتمل أن يكون التبديل في الذات على أن يلحظ في قوله: ائت بقرآن غير هذا، إبقاء هذا القرآن ويؤتى بقرآن غيره، فيكون أو بدله بمعنى أزله بالكلية وائت ببدله، فيكون المطلوب أحد أمرين: إما إزالته بالكلية وهو التبديل في الذات، أو الإتيان بغيره مع بقائه فيحصل التغاير بين المطلوبين. وتلقاء مصدر البنيان، ولم يجيء مصدر على تفعال غيرهما، ويستعمل ظرفاً للمقابلة تقول: زيد تلقاءك. وقرئ بفتح التاء، وهو قياس المصادر التي للمبالغة كالتطواف والتجوال والترداد والمعنى: من قبل نفسي أن أتبع فيما آمركم به وما أنهاكم عنه من غير زيادة ولا نقصان، ولا تبديل إلا ما يجيئني خبره من السماء.
واستدل بقوله: إنْ أتبع إلا ما يوحى إليّ على نفي الحكم بالاجتهاد، وعلى نفي القياس، وإنما قالوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، لأنهم كانوا لا يعترفون بأنّ القرآن معجز، أو إن كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله. ألا ترى إلى قولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا وقولهم: {افترى على الله كذباً} ولا يمكن أن يريدوا إئت بقرآن غير هذا أو بدله من جهة الوحي لقوله: إني أخاف.
قال الزمخشري: (فإن قلت): فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأمكرهم في هذا الاقتراح؟ (قلت): المكر والكيد. أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه إنه من عندك، وإنك لقادر على مثله، فأبدل مكانه آخر. وأما اقتراح التبديل والتغيير فللطمع ولاختبار الحال، وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فننجو منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لافترائه على الله تعالى انتهى. وإن عصيت بالتبديل من تلقاء نفسي، وتقدم اتباع الوحي، وتركي العمل به، وهو شرط جوابه محذوف دل عليه ما قبله. واليوم العظيم: هو يوم القيامة، ووصف بالعظم لطوله، أو لكثرة شدائده، أو للمجموع. وانظر إلى حسن هذا الجواب لما كان أحد المطلوبين التبديل بدأ به في الجواب، ثم أتبع بأمر عام يشمل انتفاء التبديل وغيره، ثم أتى بالسبب الحامل على ذلك وهو الخوف، وعلقه بمطلق العصيان، فبأدنى عصيان ترتب الخوف.


هذه مبالغة في التبرئة مما طلبوا منه أي: إنّ تلاوته عليهم هذا القرآن إنما هو بمشيئة الله تعالى وإحداثه أمراً عجيباً خارجاً عن العادات، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره، ولا نشأ في بلدة فيها علماء فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً يبهر كلام كل فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع، وإخبار ما كان وما يكون، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ولا يخفي عليكم شيء من أسراره، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك، ولا عرّفه به أحد من أقرب الناس إليه وألصقتم به. ومفعول شاء محذوف أي؛ قل لو شاء الله أن لا أتلوه، وجاء جواب لو على الفصيح من عدم إتيان اللام، لكونه منفياً بما، ويقال: دريت به، وأدريت زيداً به، والمعنى: ولا أعلمكم به على لساني. وقرأ قنبل والبزي من طريق النقاش عن أبي ربيعة عنه: ولأدراكم بلام دخلت على فعل مثبت معطوف على منفي، والمعنى: ولأعلمكم به من غير طريقي وعلى لسان غيري، ولكنه يمن على من يشاء من عباده، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلاً دون الناس.
وقراءة الجمهور: ولا أدراكم به فلا مؤكدة، وموضحة أنّ الفعل منفي لكونه معطوفاً على منفي، وليست لا هي التي نفي الفعل بها، لأنه لا يصح نفي الفعل بلا إذا وقع جواباً، والمعطوف على الجواب جواب. وأنت لا تقول: لو كان كذا لا كان كذا، إنما يكون ما كان كذا. وقرأ ابن عباس، وابن سيرين، والحسن، وأبو رجاء: ولا ادرأتكم به بهمزة ساكنة، وخرجت هذه القراءة على وجهين: أحدهما: أن الأصل أدريتكم بالياء فقلبها همزة على لغة من قال: لبأت بالحج، ورثأت زوجي بأبيات، يريد: لبيت ورثيت. وجاز هذا البدل لأنّ الألف والهمزة من واد واحد، ولذلك إذا حركت الألف انقلبت همزة كما قالوا في العالم العألم، وفي المشتاق المشتأق. والوجه الثاني: أن الهمزة أصل وهو من الدرء، وهو الدفع يقال: درأته دفعته، كما قال: {ويدرأ عنها العذاب} ودرأته جعلته دارئاً، والمعنى: ولأجعلنكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال وتكذبونني. وزعم أبو الفتح إنما هي أدريتكم، فقلب الياء ألفاً لا نفتاح ما قبلها، وهي لغة لعقيل حكاها قطرب يقولون في أعطيتك: أعطأتك. وقال أبو حاتم: قلب الحسن الياء ألفاً كما في لغة بني الحرث بن كعب السلام علاك، قيل: ثم همز على لغة من قال في العالم العألم. وقرأ شهر بن خوشب والأعمش، ولا أندرتكم به بالنون والذال من الإنذار، وكذا هي في حرف ابن مسعود، ونبّه على أنّ ذلك وحي من الله تعالى بإقامته فيهم عمراً وهو أربعون سنة من قبل ظهور القرآن على لساني يافعاً وكهلاً، لم تجربوني في كذب، ولا تعاطيت شيئاً من هذا، ولا عانيت اشتغالاً، فكيف أتهم باختلاقه؟ أفلا تعقلون أنّ من كان بهذه الطريقة من مكثه الأزمان الطويلة من غير تعلم، ولا تتلمذ، ولا مطالعة كتاب، ولا مراس جدال، ثم أتى بما ليس يمكن أن يأتي به أحد، ولا يكون إلا محقاً فيما أتى به مبلغاً عن ربه ما أوحى إليه وما اختصه به؟ كما جاء في حديث هرقل: «هل جربتم عليه كذباً؟ قال: لا فقال: لم يكن ليدع الكذب على الخلق ويكذب على الله».
وأدغم ثاء لبثت أبو عمرو، وأظهرها باقي السبعة. وقرأ الأعمش: عمراً بإسكان الميم، والظاهر وعود الضمير في من قبله على القرآن. وأجاز الكرماني أنْ يعود على التلاوة، وعلى النزول، وعلى الوقت يعني: وقت نزوله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8